للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

تَمْهيدٌ

خلَقَ اللَّهُ الإنسانَ وتكفَّلَ بحِفْظِهِ ورِعايَتِهِ، ومهَّدَ له السَّبيلَ لِلحُصولِ على ما يَحتاجُ إليه في مَعاشِه ومَعادِه، وأَرسلَ الرُّسُلَ لِهِدايتِه، وشَرَعَ الأحكامَ لِتنظيمِ حَياتِه وسُلوكِه، فجاءتِ الشَّرائعُ شَريعةً بعدَ شَريعةٍ بِأحكامٍ تُلائِمُ الظُّروفَ والأَحْوالَ والزَّمانَ والمكانَ، وقدِ ارْتَبَطَتِ الأحكامُ بالمَصالِحِ، بَل الشَّرائِعُ نفْسُها قَصَدَتْ إلى تحقيقِ المصلحةِ لِلْخَلْقِ ودفعِ الضَّرَرِ عنهم، والدَّليلُ على ذلكَ حُدوثُ التَّغْييرِ في الشَّرائِعِ ووُقوعُ النَّسْخِ فيها حتَّى كانتْ رِسالةُ سيِّدِنا محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتَمةَ الرِّسالاتِ، وشَريعَتُه خاتَمَةَ الشَّرائِعِ، وقدْ بيَّنَ سبحانَهُ وتعالَى أنَّ شَريعَةَ الإِسلامِ هيَ شَريعةٌ كاملةٌ، بما اشْتَملَتْ عليهِ مِن قواعدَ وأصولٍ يُعرَفُ بها الحُكْمُ مِنَ الدَّليلِ، وعنْ طَريقِها يَستنبِطُ المُجتهدُ الأحكامَ مِنَ النُّصوصِ، فالتَّشريعُ للَّهِ وَحْدَهُ {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} وقدْ نصَّ على بعضِ الأحكامِ صَراحةً، ونبَّهَ علَى البَعْضِ بِطريقِ الإشارةِ والتَّنبِيهِ، كما أشارَ إلَى العِلَلِ والمَعانِي في كَثيرٍ مِن النُّصوصِ الَّتي ارْتَبَطتِ الأحكامُ بها وشُرِعَتْ مِن أجْلِها، فما شَرَعَهُ اللَّهُ مِن أُمورٍ تعبُّديَّةٍ خالِصَةٍ لهُ تعالَى، خصَّها بِنُصوصٍ مُحْكَمَةٍ لا يصِحُّ الخُروجُ عنْها بِالتَّاوِيلِ؛ لِئَلاَّ يكونَ ذلكَ ذَرِيعَةً لِلابْتِداعِ في الدِّينِ، وأمَّا تَشْريعُه تعالَى في المُعامَلاتِ فقدْ قَصَدَ منْه ما يُصْلِحُ النَّاسَ في دُنْياهمْ وأُخْراهمْ، فوَضعَ الحُدُودَ، وقيَّدَ المُعاملاتِ أوْ أَطْلقَها، وخَصَّ بعضَها بِالذِّكْرِ اتِّباعاً أوِ اجْتِناباً وسَكَتَ عنْ أُمورٍ، أوْ وَكَلَ أمْرَها لِلْقائِمينَ علَى شُؤُونِ المسلِمِينَ، وأوْحَى إِلَى رسولِه صَلَّى

اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يُبيِّنَ لهمْ طريقَ الاجتِهادِ في اسْتِنباطِ الأَحْكامِ، فأبانَهُ بِنورِ الحقِّ سُبحانَه وتعالَى، لِيَقِفوا مِن خِلالِه علَى ما يُصْلِحُ حالَهمْ في الدُّنيا والآخرةِ، وبذلكَ تكونُ المصالحُ مِن حيثُ اعتِبارُ الشَّارعِ الحكيمِ لها وعَدَمِهِ ثلاثةَ أنواعٍ:

نوعٌ اعتبَرَه، ونوعٌ ألغاهُ، ونوعٌ سَكَتَ عنه فلمْ يَنُصَّ علَى اعْتِبارِه أوْ إلغائِه.

وقَبلَ بيانِ هذهِ الأنْواعِ نُعَرِّفُ أوَّلاً المصلحةَ في اللُّغَةِ والاصطِلاحِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>