العبد ليس مقصودا بالتجريد ولا طاقة له به, إنما صلاحه في الأسباب فيتركها فيتزلزل إيمانه ويذهب إيقانه ويتوجه إلى الطلب (من الخلق وإلى) الاهتمام بالرزق, وكذلك يأتي للمتجردين ويقول: إلى متى تتركون الأسباب؟ ألم تعلموا أن تركها يطمع القلوب لما في أيدي الناس ولا يمكنك الإيثار ولا القيام بالحقوق وعوض ما يكون منتظر ما يفتح به عليك من الخلق, فلو دخلت في الأسباب بقي غيرك منتظرا ما يفتح عليه منك, ويكون هذا العبد قد طاب وقته وانبسط نوره, ووجد الراحة بالانقطاع عن الخلق ولا يزال به حتى يعود إلى الأسباب فيصيبه كدرتها وتغشاه ظلمتها, ويعود القائم في سببه أحسن حالا منه, وإنما قصد الشيطان بذلك أن يمنع العباد الرضى عن الله تعالى فيما هم فيه, وأن يخرجهم عما اختار لهم إلى مختارهم لأنفسهم وما أدخلك الله فيه تولى إعانتك عليه, وما دخلت فيه بنفسك أوكلك إليه, {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيرا}.
هذا كلامه وفيه التنبيه على مكيدة من مكائد الشيطان وتلبيسه مقام التوكل بالاتكال, فتارة يحث على السبب ويوهم أنه السنة, وقد دس فيه الركون إليه, واطراح جانب الرب, وتارة يعكس هذه فيحثه على الترك ويوهمه أنه في مقام التوكل وإنما هو عجز ومهانة, والسعيد من وفق للفرق بينهما, وحذر من اغتياله.
وأنا استغفر الله الكريم العظيم من الكلام في هذا المقام, لولا ضرورة البيان لأحجمت العنان, فقد قال بعض الأكابر: من تكلم بكلام لم يبلغه حاله كان فتنة عليه, وعلى سامعه ومن لم يكن علمه من حاله فهو ناقل.
يا واعظ الناس قد أصبحت متهما ... تعيب فيهم أمورا أنت تأتيها