الخزر, ولا صاحب الروم , ولا صاحب الترك،ولا صاحب النوبة، وكيف يجهل سليمان موضع هذه الملكة مع قرب دارها، واتصال بلادها، وليس دونها بحار ولا أوعار، والطريق نهج الخف والحافر والقدم، فكيف والجن والإنس طوع يمينه؛ ولو كان حين أخبره الهدهد بمكانها أضرب عنها صفحاً لكان لقائل أن يقول: ما أتاه الهدهد إلا بأمر يعرفه، فهذا وما أشبهه دليل على فساد أخباركم؟
فأجاب الجاحظ بقوله: قلنا: إن الدنيا إذا خلاها الله وتدبير أهلها ومجاري أمورها وعاداتها كان لعمري كما تقولون، ونحن نزعم أن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان أنبه أهل زمانه لأنه نبي ابن نبي، وكان يوسف وزير ملك مصر ومن النباهة بالموضع الذي لا يدفع وله البرد وإليه يرجع جواب الأخبار، ثم لم يعرف يعقوب مكان يوسف ولا يوسف مكان يعقوب دهراً من الدهور مع النباهة والقدرة واتصال الدار، وكذلك القول في موسى بن عمران ومن كان معه في التيه، فقد كانوا أمة من الأمم يتسكعون أربعين عاماً في مقدار فراسخ يسيرة، ولا يهتدون إلى المخرج وما كانت بلاد التيه إلا من ملاعبهم ومنتزهاتهم، ولا يعدم مثل العسكر الأدلاء والجمالين والمكارين والفيوح والرسل والتجار، ولكن الله صرف أوهامهم ورفع ذلك القصد من صدورهم.
وكذلك القول في الشياطين الذين يسترقون السمع في كل ليلة فنقول: إنهم لو كان كلما أراد مريد منهم أن يصعد ذكر أنه قد رجم أو رجم صاحبه، وأنه كذلك منذ كان لم يصل معه أحد إلى استراق السمع كان محالاً أن يروم ذلك أحد منهم مع الذكر والعيان إلى آخر ما قاله.
والكلام في هذه المسائل طويل الذيل، وما ذكرناه كاف في المرام، وما نقله عن مشايخه من الكشف لا أصل له، نعم ورد "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" ١ وما عدا ذلك فوسواس الشياطين ولجاهلية العرب في هذا الباب أخبار
١ أخرجه الترمذي (٣١٢٧) وغيره، وهو حديث ضعيف؛ انظر تفصيل الكلام عليه في "السلسلة الضعيفة" (١٨٢١) .