للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

زمن مسعد وإلف وصول ... ومنى تستلذّها الأوهام

وواضح ما فى الأبيات من خيال دقيق، فكأنه كان يعيش فى حلم، يتعاطى خمر الأنس المسكرة، ومن قوله فى الغزل:

قد برّح الشوق بمشتاقك ... فأوله أحسن أخلاقك

لا تجفه وارع له حقّه ... فإنه آخر عشّاقك

والبيتان يحملان شعورا مرهفا رقيقا، وكان إلى ذلك كله شغوفا بالعلم، يراه متعة لا تعد لها متعة، ولذلك كان يألف دائما الخلوة للقراءة فى منزله، وفى ذلك يقول:

ما تطعمت لذّة العيش حتى ... صرت للبيت والكتاب جليسا

ليس شئ أعزّ عندى من العل‍ ... م فما أبتغى سواه أنيسا

فلذة القراءة لا تعدلها عنده لذة، وكانت نفسه أبيّة شديدة الإباء، لا يهينها ولا يذلها فدون الذل والهوان الموت، وفيم يذل الإنسان ويهون أفى سبيل المال والغنى؟ بؤسا لهما وله إن هو اقترف فى نفسه هذه الجناية الكبرى، وفى ذلك يقول:

كأنى ألاقى كلّ يوم ينوبنى ... بذتب وما ذنبى سوى أننى حرّ

وقالوا توصّل بالخضوع إلى الغنى ... وما علموا أن الخضوع هو الفقر

وبينى وبين المال شيئان حرّما ... علىّ الغنى: نفسى الأبيّة والدّهر

إن مثل هذا الغنى الذى يكسبه صاحبه بالخضوع هو الفقر الحقيقى الذى يدمرّ حياة الإنسان، فتعسا لمن يطلبه عن هذه الطريق وتبّا له. وله أبيات رائعة فى عزة النفس، وخاصة عزة نفس العلماء، اشتهرت فى عصره وبعد عصره، وهو يمضى فيها على هذا النمط:

يقولون لى: فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلا عن موقف الذلّ أحجما

إذا قيل: هذا منهل قلت: قد أرى ... ولكنّ نفس الحرّ تحتمل الظّما

ولم أقض حقّ العلم إن كان كلما ... بدا طمع صيّرته لى سلّما

ولم أبتذل فى خدمة العلم مهجتى ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما

أأشقى به غرسا وأجنيه ذلّة ... إذن فاتّباع الجهل قد كان أحزما

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظّموه فى النفوس لعظّما

ولكن أهانوه فهان ودنّسوا ... محيّاه بالأطماع حتى تجهّما

وهو يصور فى الأبيات نفس العالم الحر الذى يأبى الهوان مستشعرا كرامته إلى أقصى حد، وإنه ليأبى فى شمم ما بعده شمم أن يروى من منهل قد يصيبه منه ما يؤذى نفسه،

<<  <  ج: ص:  >  >>