للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: يا صديقي دع الآن هذه الفلسفة وخذ في قص ما رأيت، ثم ماذا بعد الوردة ولون الوردة؟

قال: إنه القلب المسكين دائمًا، إنه القلب المسكين، لقد ضحكت لي وقالت: ها أنذا قد جئت! وأقبلت ترائيني بوجهها، وتتغزل بعينيها، وتتنهد بصدرها، وألقت يديها في يدي، فأحسست اليدين تتعانقان ولا تتصافحان؛ ثم تركناهما نائمتين إحداهما على الأخرى، وسكتنا هنيهة وقد خيل إلينا أننا إذا تكلمنا استيقظت يدانا!

أما صافحتك امرأة تحبها وتحبك؟ أما أحسست بيدها قد نامت في يدك ولو لحظة؟ أما رأيت بعينيك نعاس يدها وهو ينتقل إلى عينيها فإذا هما فاترتان ذابلتان، وتحت أجفانهما حلم قصير؟

قلت: يا صديقي دع الفلسفة؛ ثم كان ماذا بعد أن نامت يد على يد؟

قال: ثم كانت سخرية من الشيطان أقبح سخرية قط.

قلت: حسبي لكأنك شرحت لي ما بقي..

فضحك طويلًا، وقال: إن الشيطان يسخر الآن منك أيضًا، وكأني به يقول لك: وكان ما كان مما لست أذكره.. أفتدري ما الذي كان وما بقية الخبر؟

لقد كنت مولعًا بامتحان قوتي في الضغط بيدي على أعواد منصوبة من الحديد، أو على أيدي الأقوياء إذا سلمت عليهم١؛ فلما صافحتني لبثت مدة من الزمن ثم شددت على يدها قليلًا قليلًا، فتنبهت في هذه العادة، فمسخت الحلم وانصرف وهمي إلى أقبح صورة وأشنعها وأبعدها مما أنا فيه من الحب ولذات الحب؛ فإذا بإزائي وجه، وجه من؟ وجه مصارع ألماني كنت أعرفه من عشرين سنة وأضغط على يده..

قلت: إنما هذه كبرياؤك أو عفتك تنبهت في تلك الشدة من يدك، ولا يزال أمرك عجيبًا؛ فهل معك أنت ملائكة ومع الناس شياطين؟

قال: والذي هو أعجب أني رأيت في أضغاث أحلامي كأن قلبي المسكين يخاصمني وأخاصمه؛ وقد خرج من أحناء الضلوع كأنه مخلوق من الظل يرى ولا يرى إذ لا شكل له؛ وسبني وسببته، وقلت له وقال لي، وتغالظنا كأننا عدوان؛


١ انظر ص٢٧٤-٢٧٥ "حياة الرافعي".

<<  <  ج: ص:  >  >>