للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد يصفر العاشق لمباغتة اللقاء كما يصفر لمباغتة الهجر، وهذه كانت حال صاحبنا عندما رآها مقبلة عليه؛ وكان مع ذلك يخشى إلمامتها به، توقيًا على نفسه من ظنون الناس؛ وأكثر ما يحسنه الناس هو أن يسيئوا الظن؛ وهو رجل ذو شأن ضخم، ومقالة السوء إلى مثله سريعة إذا رؤي مع مثلها، وكأنها هي ألمت بكل هذا أو طالعها به وجهه المتوقر المتزمت؛ فعدلت عن طريقها إلينا ووقفت على رئيس فرقة الموسيقى، وما بيننا وبينها إلا خطوات؛ ورأيتها قد هيأت في عينيها نظرة غاضبتنا بها، ثم لم تلبث أن صالحتنا بأخرى!

وكأنها ألقت لرئيس الموسيقى أمرًا ليتأهب أهبته لدورها، ثم همت أن ترجع، ثم عادت إليه فجعلت تكلمه وعيناها إلينا؛ فقال صاحبنا وأعجبه ذلك من فعلها: إنها نبيلة حتى في سقوطها!

ولا أدري ماذا كانت تقول لرئيس الموسيقى، ولكن هذا الرجل لم يظهر لي وقتئذ إلا كأنه تليفون معلق!

كانت عيناها إلى صاحبها لا تنزلان عنه ولا تتحولان إلى غيره، ولا تسارقه النظر بل تغلبه عليه مغالبة؛ ورأيته كذلك قد ثبتت عيناه عليها فخيل إلي أن هذا الوجود قد انحصر جماله بين أربعة أعين عاشقة؛ وكانت تطارحه ويطارحها كلامًا مخبوءًا تحت هذه النظرات، وقد نسيا ما حولهما، وشعرا بما يشعر به كل حبيبين إذا التقيا في بعضه لحظات الروح السامية: أن هذا العالم العظيم لا يعمل إلا الاثنين فقط: هو وهي..

وكان فمها الجميل لا يزال يساقط ألفاظه لرئيس الموسيقى، وكأنها تسرد له حكاية مروية، أو تعارض بحافظته كلامًا تحفظه من كلام التمثيل أو الغناء؛ فهي تتحدث وعيناها مفكرتان شاخصتان، فلم ينكر الرجل هيئتها هذه؛ ولكن كيف كانت عيناها؟

لقد أرادت في البدء أن تجعل قوة نظراتها كلامًا، حتى لحسبت أن هذه النظرات الأولى تهتف من بعيد: أنت يا أنت!

ثم بدا في عينيها فتور الظمأ، ظمأ الحب المتكبر المتمرد؛ لأنه حب المرأة المعشوقة، ولأن له لذتين، إحداهما في أن يبقى ظمأ إلى حين..

ثم أرسلت الألحاظ التي تتوهج أحيانًا فوق كلام المرأة الجميلة في بعض حالاتها النفسية، فتضرم في كلامها شرارة من الروح تظهر الكلام كأنه يحرق ويحترق..

<<  <  ج: ص:  >  >>