للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"قَال بَعض السَّلَف: مَا أمَرَ الله بأمْر إلَّا وللشَّيْطَان فيه نَزْغَتان: إمَّا إلى تَفْرِيط وإمَّا إلى مُجَاوَزَة، وهي الإفْرَاط، ولا يَبَالِي بِأيّهِما ظَفِر؛ زِيَادَة أوْ نُقْصَان" (١).

وتَسَلُّط الشَّيْطَان إنّمَا هُو بِالوَسْوَسَة، ولِذا قَال عليه الصلاة والسلام: الْحَمْد لله الذي رَدّ كَيْدَه إلى الوَسْوَسَة (٢).

وأمَّا مَا يَقَع مِنْ صَرْع الْجِنّ للإنْس؛ فلا يُنَافي كَوْن الشَّيْطان لَيس له سُلْطَان، وذلك مِنْ وُجُوه:

الأوَّل: أنَّ الصَّرْع ليس هو الغَالِب على بَنِي آدَم، بل هو في حُكْم النَّادِر في حَقّ بَعْضم، وهو مُشاهَد في أهْل الغَفْلَة عَنْ ذِكْر الله أكْثَر.

الثَّاني: أنَّ ذلك لَيس بإِغْوَاء وإزَاحَة عن طَرِيق الْهِدَاية، وإنّمَا هو تَخبُّط في بَعض الأحْيان. ويَدُلّ عليه قِصَّة الْمَرْأة التي كَانَتْ تُصْرَع (٣).

الثالث: أن الغالب في الصَّرَع في حق مَنْ غَفَل عن أسْبَاب حِفْظِه وكَلاءَته، فهو الذي جَعَل للشَّيْطَان عَليه سَبِيلا، فأشْبَه مَنْ تَوَلَّاه وأطَاعَه.

وأمَّا مَا ذَهَبَتْ إليه الْمُعْتَزِلة مِنْ "أنه لا سَبِيل لإبْلِيس وجُنُودِه على تَصْرِيع النَّاس وتَخْبِيط عُقُولِهم، وأنه لا قُدْرَة لَه إلَّا على قَدْر الوَسْوَسَة"؛ فَهذا قَوْل مُخَالِف للوَاقِع الْمُشاهَد، مُصَادِم للنُّصُوص، فَفِي التَّنْزِيل: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) [البقرة: ٢٧٥].

قَال ابنُ جرير: يَعْنِي بِذَلك: يَتَخَبَّلُه الشَّيْطان في الدُّنيا، وهو الذي يَتَخَنَّقُه فَيَصْرعه (مِنَ الْمَسِّ)، يَعْنِي: مِنْ الْجُنُون (٤).


(١) مدارج السالكين، مرجع سابق (٢/ ٣٤٢).
(٢) رواه أحد (ح ٢٠٩٧)، وأبو داود (ح ٥١١٢)، وقال محققو المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(٣) قصتها مخرجة في الصحيحين، وسيأتي تخريجها.
(٤) جامع البيان، مرجع سابق (٥/ ٣٨، ٣٩).

<<  <   >  >>