والترتيب. وهذا هو ثالث الجوانب أي: جانب العرض والتبويب والترتيب الذي كان مجالا لتفنن البخاري وإبداعه، إذ استطاع أن يُسَخِّر ذلك لغرض إبلاغ القارئ آراءه في مجال النقد واختياراته في ميدان الفقه والاستنباط مستبدلا اللمحة السريعة والإشارة الخفية بالعبارات والتعليقات الطويلة والمتكررة.
وبناء على ذلك احتلَّ الجامع الصحيح للإمام البخاري مكانة عالية ودرجة رفيعة لم ينافسه فيها أي كتاب، واشتهر بعلو مرتبة أحاديثه وكثرة مزاياه وخصائصه، وكان محله عند الأمة هو "التلقي بالقبول" بصورة مجمع عليها وملزمة لكل المسلمين في جميع العصور.
ويعني التلقي بالقبول من بين ما يعني التسليم التام للإمام البخاري فيما قَرَّره من صحة أحاديث كتابه، ويقتضي ذلك عدم جواز الاشتغال بالبحث أو حتى الكلام على أسانيده ورجاله من حيث الصحة والضعف أو التجريح والتوثيق وما شابه ذلك، لأن كل ذلك عبث لا داعي له، ولا فائدة من ورائه بعد أن انتهى النقاد من المحدثين من درسه وتقرير صحته، ولذلك كان سلوكهم تجاه ما خرج فيه من الأحاديث الاكتفاء بالعزو له، وعدّ ذلك حكما على الحديث بالصحة أو بالأحرى بأعلى درجاتها على الإطلاق.
ثم حذا حذوه في دقة الشرط في التصحيح تلميذه وخريجه الإمام مسلم ابن الحجاج (ت٢٦١هـ) في كتابه: "المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
كما حذا حَذْوَه في نخل الكتب المتداولة إلى وقته وانتقاء الأحاديث الصحيحة حسب شرطه الذي كان يقارب شرط الإمام البخاري في الضيق