للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» " (١) ، وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعَلَ الِاقْتِدَاءَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ هُدًى مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا كَمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلُ، فَلَوْ كَانَ فِيهِمْ مُخْطِئٌ لَمَا كَانَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ هُدًى بَلْ ضَلَالَةً.

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى تَسْوِيغِ خِلَافِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ وَنَعْلَمُ أَنَّ الْخُلَفَاءَ مِنْهُمْ كَانُوا يُوَلُّونَ الْقُضَاةَ وَالْحُكَّامَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِمُخَالَفَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ، وَلَوْ تُصَوِّرَ الْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ لَمَا سَاغَ ذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَمَا لَمْ يُسَوِّغُوا تَرْكَ الْإِنْكَارِ عَلَى مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَكُلِّ مُنْكَرٍ أَنْكَرُوهُ.

وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ، فَمِنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَقُّ مُتَعَيِّنًا فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ لَنَصَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلًا قَاطِعًا، دَفْعًا لِلْإِشْكَالِ وَقَطْعًا لِحُجَّةِ الْمُحْتَجِّ، كَمَا هُوَ الْمَأْلُوفُ مِنْ عَادَةِ الشَّارِعِ فِي كُلِّ مَا دَعَا إِلَيْهِ.

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ لَوَجَبَ الْحُكْمُ عَلَى مُخَالِفِهِ بِالْفِسْقِ وَالتَّأْثِيمِ كَالْمُخَالَفِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ.

الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَقُّ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ لَمَا سَاغَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعَامَّةِ تَقْلِيدُ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَّا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي فِيمَنْ يُقَلِّدُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَحَيْثُ خُيِّرَ فِي التَّقْلِيدِ دَلَّ عَلَى التَّسَاوِي بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَإِنَّ الشَّرْعَ لَا يُخَيِّرُ إِلَّا فِي حَالَةِ التَّسَاوِي.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَقُّ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ لَوَجَبَ نَقْضُ كُلِّ حُكْمٍ خَالَفَهُ، كَمَا قَالَهُ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ وَالْأَصَمُّ (٢) ، وَحَيْثُ لَمْ يُنْقَضْ دَلَّ عَلَى التَّسَاوِي.


(١) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ ص ١٥٠ ج ٤.
(٢) تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهَا ص ١٨٢ - ١٨٣ ج ٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>