للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

رواية يولد على الملة، وفي أخرى: على هذه الملة.

وهذا الذي أخبر به هو الذي تشهد الأدلة العقلية بصدقه. منها، أن يقال: لا ريب أن الإنسان قد يحصل له من الاعتقادات والإرادات ما يكون حقا، وتارة ما يكون باطلا، وهو حساس متحرك بالإرادات (١)، ولا بد له من أحدهما، ولا بد له من مرجح لأحدهما، ونعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يصدق وينتفع وأن يكذب ويتضرر، مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع، وحينئذ فالاعتراف بوجود الصانع الإيمان به هو الحق أو نقيضه، والثاني فاسد قطعا، فتعين الأول، فوجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به، وبعد ذلك: أما أن يكون في فطرته [محبته أنفع للعبد أولا، والثاني فاسد قطعا، فوجب أن يكون في فطرته] محبة ما ينفعه.

ومنها: أنه مفطور على جلب المنافع ودفع المضار بحسه، وحينئذ لم تكن فطرة كل واحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج إلى سبب معين للفطرة، كالتعليم ونحوه، فإذا وجد الشرط وانتفى المانع استجابت لما فيها من المقتضي لذلك.

ومنها: أن يقال: من المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق، ومجرد التعليم والتحضيض لا يوجب العلم والإرادة، لولا أن في النفس قوة تقبل ذلك، وإلا فلو علم الجهال والبهائم وحضضا لم يقبلا، ومعلوم أن حصول إقرارها بالصانع ممكن من غير سبب منفصل من خارج، وتكون الذات كافية في ذلك، فإذا كان المقتضي قائما في النفس وقدر عدم المعارض، فالمقتضي السالم عن المعارض يوجب مقتضاه، فعلم أن الفطرة (٢) السليمة إذا لم يحصل لها ما يفسدها، كانت مقرة بالصانع عابدة له.

ومنها: أن يقال: إنه إذا لم يحصل المفسد الخارج ولا المصلح الخارج، كانت الفطرة مقتضية للصلاح؛ لأن المقتضي فيها للعلم والإرادة قائم، والمانع منتف.

ويحكى عن أبي حنيفة : أن قوما من أهل الكلام أرادوا البحث معه في


(١) في الأصل: بالإرادة.
(٢) قال عفيفي: انظر الباب الثلاثين من كتاب "شفاء العليل" لابن القيم، فإنه نقل أقوال العلماء في تفسير الفطرة، وفي المقام حقه.

<<  <   >  >>