للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

له ما ستر عنه في أمسه، من الاعتزاز عليه، ورفع الاستناد إليه، وسما إلى ما سمت إليه الملوك من اختراع قصر ينزل فيه، ويحله بأهله وذويه، ويضم إليه رياسته، ويتم به تدبيره وسياسته، ويجمع فيه فتيانه وغلمانه، فارتاد موضع مدينته المعروفة بالزاهرة، الموصوفة بالقصور الباهرة، وأقامها بطرف البلد على نهر قرطبة الأعظم، نسّق فيها كل اقتدار معجز ونظم، وشرع في بنائها في هذه السنة المؤرخة، وحشد الصنّاع والفعلة، وجلب إليها الآلات الجليلة، وسربلها بهاءً يردّ الأعين كليلة، وتوسع في اختطاطها، وتولّع بانتشارها في البسيطة وانبساطها، وبالغ في رفع أسوارها، وثابر على تسوية أنجادها وأغوارها، فاتسعت هذه المدينة في المدة القريبة، وصار بناؤها من الأنباء (١) الغريبة، وبني معظمها في عامين.

وفي سنة سبعين وثلاثمائة انتقل المنصور إليها ونزلها بخاصته وعامته، فتبوّأها وشحنها بجميع أسلحته وأمواله وأمتعته، واتخذ فيها الدواوين والأعمال وعمل في داخلها الأهراء، وأطلق بساحتها الأرحاء، ثم قطع ما حولها لوزرائه وكتّابه، وقوّاده وحجّابه، فابتنوا بها كبار الدور، وجليلات القصور، واتخذوا خلالها المستغلاّت المفيدة، والمنازه المشيدة، وقامت بها الأسواق وكثرت فيها الأرفاق، وتنافس الناس بالنزول بأكنافها، والحلول بأطرافها، للدنوّ من صاحب الدولة، وتناهى الغلوّ في البناء حوله، حتى اتصلت أرباضها بأرباض قرطبة وكثرت بحوزتها العمارة، واستقرت في بحبوحتها الإمارة، وأفرد الخليفة من كل شيء إلا من الاسم الخلافي، وصير ذلك هو الرسم العافي، وربت فها جلوس وزرائه، ورؤوس أمرائه، وندب إليها كل ذي خطّة بخطّته، ونصب ببابها كرسيّ شرطته، وأجلس عليها والياً على رسم كرسي الخليفة، وفي صفة تلك المرتبة المنيفة، وكتب إلى الأقطار بالأندلس والعدوة


(١) ك: من الأبنية.

<<  <  ج: ص:  >  >>