للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهكذا يوظِّفُ طه حسين أدوات الوصف والتصوير في أسلوبه، لما يتمتع به من حِسٍّ عميق بمواقع الكلمات وجرسها ودلالاتها وإيحاءاتها في الوصف الصحفي، حين يقدِّمُ صورة مدروسة للواقع، كما فعل الجاحظ بالنسبة لعصره. فالمقال الوصفي في صحافة طه حسين يشرح ويفسر ويعلق، ويبين الأسباب النفسية, والعوامل الاجتماعية والخلقية والمادية، وتلك هي وظائف التقرير الصحفي١، والذي يتجاوز الوصف الأدبي إلى الدراسة الواعية الهادفة٢. الأمر الذي يبين بوضوح تامٍّ في رسائل "من باريس" التي نُشِرَت في صحيفة "السياسة" عام ١٩٢٣، حيث يتخذ المقال الوصفي شكلًا من أشكال التقرير الصحفي بمفهومه الحديث، من قيامه أساسًا على البحث عن الوقائع، وما يتبعها من قضايا، إلى جانب الطريقة الفنية في العرض الواقعي؟ فقد سافر طه حسين إلى باريس وبلجيكا ليشهد مؤتمر العلوم التاريخية في أبريل ١٩٢٣، وينتهز هذه الفرصة ليوافي جريدته بتقارير صحفية تتخذ شكل "الرسائل من الخارج" تتضمَّن الوقائع ومقارنة الظروف في وطنه بالظروف في البلاد الأخرى, وهو لذلك "ينقِّبُ عن المعلومات التي يمكن أن تصنع التقارير الصحفية"٣, ثم يُخْضِعُ هذه المعلومات والوقائع للوصف الصحفي، ليدعِّمَ تقريره، ذلك أن "الوقائع دائمًا أقوى من الأوصاف والنعوت البسيطة", ولذلك يستهِلُّ رسالته الأولى "من باريس" والتي تحمل عنوان: "أسبوع بلجيكا - مؤتمر العلوم التاريخية"٤ بقوله:

"كنا ألفًا أو نزيد على الألف، كلنا يُعْنَى بالتاريخ أو بعلم أو بفنٍّ من فنون هذه العلوم التي يحتاج إليها التاريخ. وقد اجتمعنا من أطراف الأرض على اختلاف أوطاننا ولغتانا ومناهجنا في الحياة، لا يجمع بيننا إلّا شيء واحد, هو أننا نشتغل بالتاريخ أو بفنٍّ يتصل بالتاريخ"٥.

ويحدد الهدف الذي يسعى إليه من وراء تقريره، بتحديد فوائد هذه المؤتمرات:

"كثيرة جدًّا الفوائد المختلفة التي تنتجها مثل هذه المؤتمرات, فلست أذكر الفوائد الأساسية التي يستفيدها علم التاريخ, وإنما أذكر فوائد أخرى غير هذه, ليس بينها وبين التاريخ صلة. فيكفي أن تكون فطنًا دقيق الملاحظة لتجد لذَّاتٍ متنوعة في ملاحظة هؤلاء الناس المختلفين في الوطن والجنس والطبيعة والمزاج


١، ٢ الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص١٤٢.
٣ دافيد بوتر "ترجمة محمد مصطفى غنيم" مخبرو الصحف ص٧٩، ٨٠.
٤ السياسية في ٢٦ أبريل ١٩٢٣.
٥ المرجع نفسه.

<<  <   >  >>